من مظاهر الحرب العالمية
في أثناء دراستي في الصف الأول الثانوي والثاني الثانوي في يافا كانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت.
ومن مظاهر الحرب التي كنت ألحظها في يافا انتشار أفراد جيوش الحلفاء في المدينة وكان الجنود يتدافعون إلى دور اللهو بصورة ملفتة للنظر وكانت حالة الطوارئ مفروضة على البلاد. وقد تطوع عدد من الشباب للعمل في قوات الحلفاء ونشطت حركة العمل في معسكرات الجيش البريطاني في صرفند وغيرها. وأنشأت الحكومة بعض الدوائر الجديدة التي سميت بدوائر الحرب. وكان موظفوها يتقاضون رواتب أعلى من زملائهم في الدوائر الأخرى ومن هذه الدوائر دائرة الصناعات الثقيلة ودائرة الصناعات الخفيفة ودائرة المؤن ودائرة مراقبة الصحف والتي عملت فيها فيما بعد مراقبا للصحف العربية وغيرها. وكان قانون الطوارئ لا يسمح للموظفين بالاستقالة من وظائفهم إلا بصعوبة كما كنت ألاحظ ارتفاع الأسعار. وجرى تقنين استعمال بنزين السيارات مما قلل استعمال السيارات إلا لأغراض الحرب أو للاسعاف وعلاج المرضي كما جرى تقنين بيع اللحوم بحيث لا يسمح ببيعها إلا مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا. وبدأنا في يافا نأكل البرغل بدل الرز ونستعمل السكر البني الخام بدل السكر الأبيض، وبدأنا نعرف فول الصويا. وصارت الحكومة تصرف أقمشـة موحـدةutility للمواطنيـن كما ارتفعت أسعار الملابس الجاهزة وازدهر سوق البالة للملابس المستعملة الواردة من الخارج. وبسبب الحرب فرضت الحكومة قيوداً على التموين وكانت مواد التموين تصرف بموجب البطاقة التموينية للأسرة. وكان ارتفاع الأسعار يقاس شهريا بالنقط. وكانت الحكومة تدفع لموظفيها علاوة غلاء معيشة بموجب النقط التي تقيس بها ارتفاع الأسعار. ونتيجة للحرب توقف تصدير البرتقال إلى الخارج وكان ذلك صعبا جدا على الأهالي باعتبار البرتقال عصب الاقتصاد الرئيسي في يافا بل في كل فلسطين. ونتيجة لذلك كنت ترى أكياس البرتقال مكدسة في البيارات وتباع بأثمان زهيدة جداً. وكان من الصعب على أصحاب البيارات قطف الأثمار وهي عملية ضرورية لحياة ونمو شجرة البرتقال. وقامت حكومة الانتداب بمساعدة المزارعين وأصحاب البيارات بالقروض لري وفلاحة أراضيهم من خلال مجلس مراقبة الحمضيات والذي كان مقره في مدينة يافا.
ومن مظاهر الحرب أيضا ازدياد عمليات تهريب البضائع من شرق الأردن إلى فلسطين وخصوصا إطارات السيارات.
كما كنت ألاحظ أثناء الحرب أن الحكومة كانت تقتصد في كل شيء حتى أن دائرة البريد وغيرها كانت تعيد استعمال المغلفات الرسمية لأكثر من مرة فضلاً عن استعمال ورق الجرائد في المراحيض.
ولاحظـت أثنـاء الحرب عودة التعامل بين العرب واليهود والذي كان قد توقف منذ ثورة 1936.
وفي أواخر الحرب ازداد نشاط المنظمات الصهيونية في عملياتها الإرهابية ضد البوليس البريطاني ورجال حكومة الانتداب.
وخلال الحرب العالمية الثانية أنشأت الحكومة البريطانية محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية للدعاية للحلفاء. واتخذت هذه المحطة مقراً لها في مدينة جنين في البداية ثم انتقلت إلى مدينة يافا. وبسبب وجود هذه المحطة في يافا بدأنا نرى كبار الفنانين والأدباء العرب يحضرون إلى المدينة للاشتراك في برامج تلك المحطة. وقد برز في تلك الفترة المطرب اليافي الشاب محمد الرشيدي، كما برز المنولوجست الصغير مازن شفيق الأنصاري. وكانت محطة الشرق الأدنى مجالاً خصباً لهما ولغيرهما من الفنانين الفلسطينيين لإظهار مواهبهم الفنية.
هذا وفي سنوات الحرب توقف أهالي مدينة يافا والمدن المجاورة عن الاحتفال بالمواسم الشعبية والوطنية كموسم النبي روبين وموسم النبي صالح وغيرهما.
وفي داخل مدينة يافا ومدن فلسطين الأخرى كان نظام اطفاء أنوار الشوارع سارياً كما كانت تعتم النوافذ وتغطى بالورق الأزرق كاجراء احتياطي للتعتيم للوقاية من غارات طائرات الأعداء.
تأسيس رابطة الطلبة العرب
وفي عام 1939 وأثناء دراستي في الصف الثاني الثانوي انتسبت لفرع يافا لرابطة الطلبة العرب التي تأسست آنذاك. وكنت أذهب مع زملائي باستمرار وخصوصا في العطلات إلى مقر الرابطة الكائن في المكتبة الاسلامية الواقعة في الطابق العلوي من الجزء الخلفي من عمارة مسجد يافا الكبير في وسط المدينة وكانت تلك المكتبة تطل على “المدينة القديمة” و”سبيل المحمودية” وفي ذلك المقر كان مسؤولا عنا طالب من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت هو وجيه الفاروقي. وكنا نمارس نشاطات مختلفة وتعلمت هناك المشاركة في الاجتماعات العامة والمناقشة وأسلوبها وكيفية اقتراح مشاريع القرارات ثم التثنية عليها وطرحها للمناقشة ثم التصويت عليها وما إلى ذلك. تلك الأمور التي أتقنتها فيما بعد وأصبحت قادرا على ادارة الاجتماعات بكفاءة في حياتي العامة فيما بعد ولاهتمامي بهذه الأمور كان لابد من الاطلاع على كتاب ادارة الاجتماعات “Robert Rules”.
وكانت مشاركتي في رابطة الطلبة العرب بيافا أول عمل سياسي مارسته في حياتي. وكانت تلك الرابطة تصدر مجلة اسمها الغد محررها شخص من عائلة البندك في بيت لحم وأظن أنه إلياس البندك. وكانت المجلة يسارية الاتجاه نسبياً وكان من الذين يكتبون فيها كما أذكر موسى رشدي الدجاني من يافا. وكنت مشتركا في تلك المجلة واستفدت كثيراً من مطالعتها.
تأسيس عصبة التحرر الوطني
وبالمناسبة أذكر أنني تعرفت فيما بعد على رشدي شاهين أحد قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني والذي كان زميلي في التدريس عندما كنت أدرس في كلية الثقافة بيافا بعد تخرجي من الرشيدية. وكنت أسهر ليلياً وخصوصا قبيل النكبة معه ومع صديقي حسين نجم المدرس في تلك المدرسة وعلى يدي رشدي شاهين بدأت أعرف وأقرأ الكثير عن الحركات الاشتراكية والشيوعية ورجالها كما كنا نناقش معاً مختلف الأحداث السياسية الفلسطينية والدولية. وكان رشدي شاهين وبعض الزملاء قد انتسبوا إلى عصبة التحرر الوطني والتي أنشئت في فلسطين في أواخر سنوات الحرب العالمية الثانية وكانت العصبة تمثل الخط اليساري وإلى حد ما الشيوعي علماً بأن حكومة الانتداب سمحت لهذه العصبة بالعمل في فلسطين ونشر أفكارها عبر جريدة “الاتحاد” التي كانت تصدر في حيفا وكذلك من خلال نشر بياناتها في الساحات العامة وذلك نظرا للتحالف الذي كان قائما بين بريطانيا والاتحاد السوفيتي زعيم الكتلة الشيوعية في الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945 بانتصار الحلفاء على المانيا وحلفائها.. بعد أن ألقت أمريكا القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين