البلدة القديمة والميناء في يافا موقعها على تلة مرتفعة جعل منها منطقة مشرفة على قسم كبير من أحياء المدينة الجديدة وجدير بالذكر أن أجدادنا الكنعانيين العرب هم الذين اختاروا موقعها وكانوا أول من بناها وسكنها.
الباب الأول – طفــــــولتـــــــي
مولدي
ولدت عام 1924 م في مدينة يافا عروس فلسطين. وكان مولدي في شارع أبو الجبين والذي سمي باسم عائلتنا باعتبارها أول من سكنه وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وكان جدي لوالدي الحاج أمين محمد أبو الجبين وأخوه جدي لوالدتي الحاج أحمد قد أنشأ دارين كبيرتين متجاورتين في ذلك الشارع بعد أن تركت العائلة منزلها القديم الكائن بالبلدة القديمة في يافا شأنها شأن معظم العائلات اليافية آنذاك. ويقع شارع أبو الجبين هذا في أول طريق المحطة الكائنة في حي الرشيد أو أرشيد وكان والدي صالح أبو الجبين “مختار” ذلك الحي في الأربعينات من القرن الماضي. ويذكر أن جدي أمين له ثلاثة أخوة وهم أحمد وعبد الله ورشيد. وهؤلاء هم رؤوس أفخاذ العائلة الأربعة في مدينة يافا
نشوء العائلات المصرية في يافا
ويذكر أن المصريين الذين وفدوا إلى يافا مع حملة ابراهيم باشا نجل محمد علي باشا عام 1824 وهم الذين أنشأوا ذلك الحي وسموه باسم مدينة “رشيد” المصرية وسكنوه بعد رحيل ابراهيم باشا عن يافا.
ويقال أنه بعد انسحاب الجيش المصري منها قام والي يافا بتزويج جنود ابراهيم باشا الذين فضلوا البقاء في يافا من بعض الأرامل صغيرات السن أو من فتيات يافيات ممن كن أطفالا ولم يقتلهن نابليون بونابرت مع آبائهن عندما فتح يافا بالحيلة في شهر آذار (مارس) عام 1799 وقتل كل أفراد حاميتها البالغ عددهم نحو خمسة آلاف شخص في مذبحة يافا الشهيرة والتي قام بها الجنود الفرنسيون آنذاك حيث قتلوا كل أو معظم رجال الحامية بالسلاح الأبيض “توفيراً للذخيرة” حسب الأوامر التي صدرت إليهم من قائدهم المجرم نابليون بونابرت. ونابليون هذا سبق أن وصف مدينة يافا بأنها “واحة أفلتت من الجنة”. وبعد تلك المذبحة خلت مدينة يافا من الرجال مما دعا واليها بعد ذلك لتزويج الجنود المصريين الذين آثروا البقاء فيها من فتيات يافيات كما ذكرنا حتى ينشأ في يافا رجال لإعمارها ولحمايتها باعتبارها ثغر فلسطين الرئيسي ومعبر السياح الأجانب إلى القدس الشريف.
وتعود أصول الكثير من العائلات اليافية إلى مصر حيث كان هناك اتصال دائم وهجرات متبادلة بين المصريين واليافيين عبر التاريخ.
أصل عائلة أبو الجبين
ومن الملاحظ أن في مدينة يافا أسماء مصرية لأحياء وأسواق عديدة كحي العجمي وحي المنشية وحي الرشيد وسوق البلابسة وغيرها. وقد يكون أصل عائلتنا أيضاً من مصر إلا أن شجرة العائلة والتي كانت محفوظة في مدينة صفد الداخلية تقول أن جد عائلتنا الشيخ ابراهيم المتبولي من الحجاز وتعود أصول والده إلى الخليفة عثمان بن عفان كما تعود أصول جدة جدنا المتبولي لوالدته إلى زين العابدين بن الحسن بن علي والذي مدحه الفرزدق في حضرة الخليفة الأموي في قصيدته الميمية والتي مطلعهـا: “هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحل والحرم”. كما تبين شجرة العائلة أن جد العائلة هاجر من الحجاز إلى مصر وبعدها إلى فلسطين! حيث توزع أبناؤه في أربع مدن وقرى فلسطينية وهي صفد في الشمال والظاهرية في الوسط قرب الخليل ثم هربيا في الجنوب قرب غزة وأخيراً في مدينة يافا وهي التي ولد فيها جدي ثم ولد والدي صالح أمين عام 1888، وأصبح عام 1943 مختارا لحي ارشيد في يافا، وتوفي في القاهرة عام 1961.
وقد تزوج والدي في يافا بابنة عمه قبيل الحرب العالمية الأولى وكانت والدتي واسمها “زلفى” تتقن اللغة الفرنسية التي تعلمتها في مدرسة راهبات ماريوسف التبشيرية بيافا. والمعروف أن اللغة الفرنسية كانت اللغة الثانية للمثقفين في فلسطين في العهد العثماني قبل اللغة الانجليزية التي انتشرت في عهد الانتداب.
دخول الكهرباء إلى مدينة يافا
وأذكر أنني في طفولتي كنت ألحظ والدي وهو يدخن السجائر التركية كما كنت أسمعه وهو يترنم بالأغاني التركية في منزلنا، وكنت أسمع تلك الأغاني أيضا عندما كنت أقترب من “مقهى الانشراح” الشهير القريب من شارعنا. وقد ذكرت لي خالتي دولت أنه في يوم مولدي بدأ العمال في إيصال الكهرباء إلى منزلنا لأول مرة فسماني أهلي تيمنا “خيري الدين”.
ويذكر أن شركة روتنبرغ اليهودية كانت قد حصلت من حكومة الانتداب عام 22 على امتياز انتاج وتوزيع الكهرباء في فلسطين. وقد عارض الشركة كثيرون من أهل البلاد بينما كان فريق آخر منهم يشجع على المساهمة في تلك الشركة.
العملة الفلسطينية
ومن ذكريات طفولتي الجميلة أنني كنت أشتري قطع الحلوى من دكان البقال (العقاد) الكائنة في أول شارعنا بمليم أو مليمين مصريين. وقد بقينا في فلسطين نستعمل العملة المصرية بعد دخول الانجليز إلى فلسطين في الحرب العالمية الأولى وحتى عام 1927 عندما سكت حكومة الانتداب العملة الفلسطينية وصرنا نستعمل (المل) الفلسطيني بدلاً من المليم المصري. وكذلك باقي قطع العملة المعدنية الفلسطينية وهي المل والملان وهما قطعتان من النحاس ثم ثلاث قطع من القصدير متدرجة في حجمها وهي فئة خمسة ملات وتسمى (تعريفة) وعشرة ملات وتسمى (قرش) وعشرين ملا وتسمى (قرشين) ثم خمسين ملا وتسمى (شلن) ومئة مل وتسمى (عشرة قروش) أو (بريزة). والقطعتان الأخيرتان فئة خمسين مل و مائة مل كانتا من الفضة. وذلك فضلا عن العملة الورقية وهي أوراق نقدية من فئة نصف جنيه فلسطيني وجنيه وخمسة جنيهات وعشرة جنيهات. وكان يطلق على الجنيه الفلسطيني بالعامية لفظ (ليرة) أما الاسم الرسمي له فهو (جنيه فلسطيني) وكان على كل ورقة نقد صورة لأحد معالم فلسطين الأثرية على كل من وجهيها. وأذكر أن لون ورقة الجنيه كان أخضر بينما كان لون ورقة الخمسة جنيهات أحمر ولون ورقة العشرة جنيهات أزرق غامق بينما كان لون ورقة الخمسين جنيها برتقالي داكن. والمعروف أن الجنيه الفلسطيني (1000 مل) كان هو العملة الرسمية في شرق الأردن أيضاً.وكان الجنيه يعادل الباوند الانجليزي قبل انتهاء الانتداب في عام 1948 وكانت قيمته قبل الحرب العالمية الثانية تعادل ليرة ذهبية أو أكثر وتقارب قيمة الجنيه المصري آنذاك.
بداية تعلقي بالعمل العام
وفي طفولتي بدأت عيني تقع على العديد من الأحداث العامة. فقد كان في شارعنا آنذاك مقر النادي الرياضي الإسلامي. وكان فيه أيضا مقر فرقة الكشافة المتجولة الاسلامية وكنت أواكب نشاطات تينك المؤسستين وحركتهما الأمر الذي أثر على شخصيتي مستقبلا وجعلني أتعلق بالنشاطات العامة.
انتقالنا إلى منزل مستقل
وفي عام 1929 انتقلنا من دار العائلة التي ولدت فيها إلى منزل مستقل يقع في شارع البطمة في أول طريق
العجمي في جنوب المدينة وذلك نظراً لازدياد عدد أفراد الأسرة الأمر الذي كان متبعا في يافا.
ثورة البراق
وفي المنزل الجديد بدأت أسمع عن أحداث ثورة البراق واضطرابات عام 29. وهناك أدخلني والدي إلى المدرسة الأرثوذكسية القريبة من منزلنا ذاك. علماً بأنني كنت في طفولتي أذهب إلى مدرسة الطليان التبشيرية الكائنة قرب المحطة ثم إلى مدرسة البرية للبنات القريبة من شارع أبوالجبين حيث كنا نسكن.
انشاء حي النزهة
وبعد قضاء بضعة شهور في شارع البطمة انتقلنا إلى حي النزهة وسكنا هناك في منزل مستأجر مكون من 3 غرف وصالة وكانت أجرته 22 جنيها فلسطينيا في السنة. وكانت الايجارات في يافا تعقد لمدة سنة هجرية من محرم إلى شهر محرم من العام التالي.
وكان حي النزهة آنذاك قيد الانشاء. وكنت ألحظ العديد من العمال السوريين من حوران يشاركون في بناء مساكن ذلك الحي
I pay a quick visit each day a few blogs and sites to read articles, however this blog gives quality based writing.