وفاة والدتي
وفي شهر أيار – مايو – من عام 1938 توفيت والدتي إثر عملية جراحية أجريت لها في المستشفى الفرنسي بيافا قام بها جراح فرنسي اسمه الدكتور بيرو وكان هو وزميله الدكتور كورني أهم طبيبين في مدينة يافا بعد الدكتور فؤاد الدجاني. وكان المستشفى الفرنسي أكبر مستشفيات المدينة يليه مستشفى الدكتور فؤاد الدجاني في حي النزهة، والذي يعتبر أول مستشفى عربي خاص بفلسطين، (وبعد النكبة اطلق اسم “دوار فؤاد الدجاني” على المنطقة التي فيها ذلك المستشفى في حي النزهة). وعلى إثر وفاة والدتي تركنا حي النزهة وعدنا إلى شارع أبو الجبين مرة ثانية حيث كانت دور العائلة الكبيرة
وعند انتقالنا إلى شارعنا كانت ثورة عام 1938 في أوجها وكانت السلطات البريطانية تفرض منع التجول باستمرار في محاولة منها لقمع الثورة.
منع التجول
وكانت صافرة الإنذار أو “زامور منع التجول” تطلق في اشارة لفرض منع التجول على المدينة والذي كان يستمر كل ساعات الليل ومعظم ساعات النهار ولم يكن يتوقف إلا لساعتين أو ثلاث ساعات يقوم السكان خلالها بشراء حاجاتهم من الأغذية والخبز. وكان منع التجول في تلك السنة يستمر أياما بل أسابيع متتالية وفي فترات منع التجول كان الجنود الانجليز يجمعون رجال الحي ويبقونهم في الشمس لساعات طويلة وأيديهم مرفوعة إلى الأعلى.
التفتيش عن السلاح
بينما كانوا هم يداهمون المنازل ويقومون بتفتيشها بحثا عن الأسلحة وكانوا يعيثون بالمنزل فسادا أثناء قيامهم بالتفتيش. وأذكر أن الجنود دخلوا شارعنا مرة في صيف عام 38 وبدأوا في التفتيش وكانت دارنا في وسط الشارع وكان عمي مصباح أبو الجبين أحد فرسان يافا وكان يملك فرسا جميلة شهباء اللون بنى لها عمي “ياخورا” ضخما من الاسمنت المسلح بجوار الدار … وعندما دخل بعض الجنود الدار للتفتيش كانت الفرس أمامهم فبدأوا يداعبونها .. فاغتنم عمي فرصة انشغالهم بالفرس وتمكن من تهريب قطعة السلاح التي كان يحتفظ بها في غرفته داخل الدار.
فرسان يافا
وبهذه المناسبة أقول أنه أثناء الثلاثينيات وأوائل الأربعينات كان في مدينة يافا عدد من الأشخاص اهتموا بتربية الخيول وركوبها وبرز منهم ثلاثة فرسان هم مصباح أبو الجبين وحسيب الدرهلي وديب بركة وكان هؤلاء يتنزهون بخيولهم على شاطئ البحر في فترة العصر في معظم أيام الأسبوع. ويذكر المخضرمون من أهالي يافا أن فرس مصباح أبو الجبين كانت تبكي وهي متشحة بالسواد أثناء سيرها في جنازته بيافا عام 1945.
زيادة ثقافتي السياسية
ولأن شارعنا كان يعتبر حيا داخليا لا يدخله رجال الجيش والبوليس إلا نادرا لمراقبة فرض منع التجول فقد كان رجال الشارع يجدون في منع التجول فرصة للتجمع في منزل أحدهم حيث كانت تعقد لقاءات دورية في الأمسيات وكنت خلال تلك الاجتماعات أسمع عن أخبار الثورة وقسوة الانجليز في مكافحتها كما بدأت أتعرف على أسماء قادة الثورة في المناطق المختلفة من فلسطين والذين كانوا يتمتعون بشبه استقلالية رغم أنهم كانوا يتبعون للقيادة السياسية أي للمفتي وكان لأولئك القادة سلطات واسعة في مناطقهم بل كانوا يعقدون محاكم الثورة لمحاكمة المتعاونيـن مـع رجال السلطة. ومـن أهـم القـادة الذين كانوا في منطقة جنين – طولكرم – القائدان عبد الرحيم الحاج محمد وعارف عبد الرازق … وخلال تلك الفترة قرأت صفحات من كتاب “كفاحي” لأدولف هتلر وهو أول كتاب سياسي عرفته في حياتي.
منع لبس الطربوش
وإلى جانب كل ذلك برزت ظاهرة أخرى في تلك الأيام من عام 38 وهي ظاهرة منع لبس الطرابيش حيث منع رجال الثورة سكان المدن من لبس الطرابيش لأن رجال السلطة كانوا عند التفتيش أو المداهمات يقبضون على كل شخص يلبس “حطة وعقال” لأنه من الثوار!! وأراد قادة الثورة تضليل رجال الجيش الانجليز بأن جعلوا جميع السكان يلبسون “الحطة والعقال” أو يبقوا حاسري الرؤوس حتى لا يميز رجال الجيش الثوار من بين السكان ويعتقلوهم.
والمعروف أن الطربوش آنذاك كان لباس الرأس الرسمي في معظم المدن الفلسطينية وكذلك في مصر وعدد من الأقطار العربية بينما كان سكان القرى وسكان بعض المدن الفلسطينية الأخرى يضعون “الحطة والعقال” على رؤوسهم. والطربوش لباس للرأس تركي الأصل ويصنع من القماش الصوف السميك ذي اللون الأحمر الغامق بمقاسات مختلفة حسب حجم الرأس. وكان في يافا حوانيت تبيـع الطرابيش وتقوم بكيها واستمـر كبار السن في لبس الطربوش … وأذكر أن والدي استمر بلبس الطربوش حتى وفاته في القاهرة عام 1961.
الاعتقالات
ومن مظاهر ثورة 38 أيضا الاعتقالات السياسية حيث كان الكثيرون من رجال البلاد يزجون في المعتقلات عقابا لهم وتقييدا لحركتهم. ومن هذه المعتقلات معتقل صرفند قرب يافا ومعتقل عكا في الشمال. وكنا نسمع الكثير عن حياة المعتقلين القاسية واجتماعاتهم الحذرة في تلك المعتقلات وقد ذكر الكثيرون في مذكراتهم السياسية تفاصيل عن حياتهم في تلك المعتقلات.
الاغتيالات السياسية
وكان من المظاهر السيئة في ثورة عام 1938 الاغتيالات السياسية التي أدانها الشعب الفلسطيني وأدت إلى تفريق الصفوف ثم إلى إضعاف الثورة. وكنت أسمع في صباي أن رجال المفتي كانوا يلجأون إلى الاغتيالات لإسكات خصومهم السياسيين من المعارضة. وسمعت آنذاك أنه تم اغتيال المفكر الفلسطيني حسن صدقي الدجاني في القدس لأنه من المعارضين وكذلك فخري النشاشيبي والذي اغتيل في بغداد عام 41. كما اغتيل في اللد كل من سعيد الهنيدي وعبد اللطيف الهنيدي وعمر الكرزون. كما سمعت أن أنور الشقيري اغتيل في عكا. واغتيل الزعيم العمالي سامي طه في حيفا كما اغتيل طه غنام وسليم العمري في يافا واغتيل كثيرون غيرهم. وقال البعض أن العديد ممن تم اغتيالهم قد اغتيلوا ظلما أو بطريق الخطأ أو للانتقام أو لتصفية حسابات شخصية قديمة. هذا وكنت ألحظ في يافا أن زعماء المعارضة فيها كانوا يشددون الحراسة حول منازلهم ومكاتبهم وأماكن تجمعاتهم وعرفت منهم في يافا عمر البيطار وعبد الرؤوف البيطار ومسعود الدرهلي وعلي المستقيم وسليم السعيد وغيرهم. وهؤلاء كانوا من حزب الدفاع “النشاشيبية” نسبة إلى زعيم الحزب راغب النشاشيبي فيما كان من رجال الحزب العربي في يافا أو “حزب المفتي” برئاسة جمال الحسيني “الحسينية” كل من محمد عبد الرحيم وخالد الفرخ وعلي الدباغ وكامل الدجاني وغيرهم.
وكنا نسمع أن عائلات طوقان والشكعة والمصري في نابلس من المعارضين وكذلك عائلتي الهنيدي والكرزون في اللد. كما كان يقال أن رشدي الشوا من غزة كان من المعارضين أيضا، بينما كان الحاج موسى الصوراني هناك من رجال المفتي “الحسينية”.
وكان التنافس شديدا في فلسطين بين “الحسينية” و”النشاشيبية” (المعارضين) وظهر ذلك واضحا في انتخابات البلديات ومنها انتخابات بلدية القدس في الماضي وانتخابات بلدية يافا التي جرت عام 1946.
مشاركتي في رحلة كشفية
وكنت في تلك السنة كشافا في فرقة الكشافة بالمدرسة وأذكر أننا خلالها ذهبنا في رحلة كشفية زرنا فيها مدن شمال فلسطين ثم توجهنا إلى منطقة الحمة ونصبنا خيامنا على شاطئ نهر اليرموك حيث جرت معركة اليرموك والتي انتصر فيها المسلمون بقيادة أبوعبيدة الجراح وخالد بن الوليد. وكانت تلك الرحلة أول رحلة كشفية أشارك فيها!!