اكمال تعليمي في القدس
وحدث أن عرفت بعد أن رجعنا إلى دار العائلة في شارع أبو الجبين في ربيع عام 38 أن أحد جيراننا وهو راغب الخالدي نجل الدكتور حسن شكري الخالدي قد أرسل في بعثة من يافا لاكمال دراسته في الكلية العربية بالقدس. ولم يكن يرسل من المدن الفلسطينية إلى الكلية العربية والكلية الرشيدية بالقدس آنذاك إلا اثنان أو ثلاثة كل سنة.
وقد راقت لي فكرة اكمال تعليمي في القدس. والحقيقة أن هذه الفكرة رغم تفوقي في الدراسة كانت غائبة عن بالي لأن طلاب مدرسة يافا الثانوية كان أمامهم عادة القسم التجاري بعد انهائهم الصف الثاني الثانوي. وقد تأسس ذلك القسم في يافا منذ عام 1935 حيث يدرس فيه الطلاب سنتين ينالون بعدهما الشهادة الثانوية التجارية، وكان مؤسس ذلك القسم وأول مدرس فيه حافظ الدجاني ثم خالد حمو، كما كان في حيفا مدرسة صناعية بنفس المستوى. وكان في طولكرم مدرسة زراعية بينما لم تكن في فلسطين حتى بداية الأربعينات مدارس ثانوية كاملة عدا الكلية العربية والكلية الرشيدية بالقدس وهما حكوميتان وذلك بالإضافة إلى المدارس التبشيرية والتي كان طلابها يتقدمون لفحص متريكوليشن لندن. كما أن دار المعلمات الحكومية في القدس بدأت بعض طالباتها يتقدمن لفحص المترك في نهاية السنة الدراسية 42-43.
وبعد أن نجحت بتفوق في الثاني الثانوي اختارتني دائرة المعارف مع زميل لي لإكمال دراستنا في القدس حيث ادخل زميلي فؤاد عباس إلى الكلية العربية وأرسلت أنا إلى المدرسة الرشيدية والتي دخلتها في شهر تشرين أول – أكتوبر عام 1940.
وفي القدس مكثت في القسم الداخلي أو منزل الكلية الابراهيمية والذي كان يضم بعض طلاب الرشيدية نظرا لضيق منزل المدرسة الرشيدية وكان هذان المنزلان في حي باب الساهرة بالقدس. وعشت سنتين في منزل الابراهيمية أي سنة 40/41 وسنة 41/42 وخلال تينك السنتين كانت لي فرصة للتعرف عن كثب على عاصمتنا الحبيبة القدس وآثارها
ومعالمها التاريخية والدينية.
وفي أثناء دراستي في الرشيدية تصادقت مع العديد من طلابها المتفوقين والذين وفدوا إليها من مختلف المدن الفلسطينية والذين تولوا بعد تخرجهم أعلى المناصب في فلسطين. والحقيقة أن الحياة في القسم الداخلي آنذاك كانت قاسية لأننا كنا في سنوات الحرب العالمية الثانية حيث كان توزيع المؤن مقننا وكانت الأوضاع المعيشية صعبة. كما أنني فوجئت عندما وجدت طلبة الرشيدية مجدين جدا ويصرفون ساعات طويلة في المذاكرة وتحضير الدروس خلافا لما اعتدت عليه في يافا، حيث كنا هناك أقل جدية في المذاكرة وكان يقال عنا في القدس “أن طلاب يافا “شميمة هوا ” !!
وقد تتلمذت في تينك السنتين على يد عدد من المدرسين الأفاضل منهم الدكاترة: نيقولا زيادة ومحمد الحاج مير وعبد الحافظ كمال وأحمد سعيدان وعبد السلام البرغوتي ووصفي حجاب وموسى الخوري. وكان هؤلاء من كبار الأساتذة في فلسطين وكان عدد منهم يدرس في الكلية العربية بالإضافة إلى الكلية الرشيدية والتي أصبحت في سنوات الحرب الأخيرة المدرسة الحكومية التي يرسل طلابها المتفوقون في بعثات دراسية للخارج بينما بقيت الكلية العربية لتخريج المعلمين لمدارس المدن الفلسطينية المختلفة بالإضافة إلى إرسال بعض المبعوثين من الطلاب المتفوقين. هذا ونظرا لافتقار البلاد آنذاك إلى الكفاءات العلمية في حقل التعليم فقد بدأ بعض أولئك المدرسين في سنوات الحرب الأخيرة بالتدريس أيضا في الكليات الأهلية في القدس والتي بدأت حينئذ في اكمال صفوفها الثانوية وصار طلابها يتقدمون لامتحان شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي الفلسطيني –المتريكوليشن- أسوة بطلاب الكلية العربية والرشيدية.
نظام الدراسة في الرشيدية
” من حيث نظام الدراسة في الكلية الرشيدية أقول اننا جئنا من بلدان مختلفة في فلسطين وكنا إما أوائل أو ثواني الصف الثاني الثانوي في مدارسنا وقسمونا إلى مجموعات حسب ميولنا. وكنا في الصفين الثالث ثانوي -أ- وثالث -ب- حوالي خمسين طالبا كما أذكر وهؤلاء جاءوا من بلدان مختلفة في فلسطين، ومن طلاب القدس لأن القدس كان لها أفضلية بمعنى أن العشرة الأوائل في الثاني الثانوي يرفعون للثالث بعكس باقي مدن فلسطين حيث يرسل فقط واحد أو اثنان للثالث الثانوي. وقد قسمونا إلى شعبتين علمي وأدبي حسب ميولنا. وفي القسم العلمي الذي دخلته أنا اختاروا من الخمسة والعشرين ثمانية طلاب بعد فحص ذكاء ليدرسوا رياضيات اضافية أي رياضيات عالية وطبيعيات عالية. كما كنا في هذا التخصص الخاص ندرس بقية المواضيع مع زملائنا لكن كان لنا ثماني حصص في الأسبوع لا نشترك فيها مع باقي الطلاب بل نذهب إلى المختبر أو إلى غرفة أخرى ندرس تخصص الرياضيات وعندما يكون بقية الطلاب يدرسون جغرافيا أو رياضيات عادية كنا نحن نأخذ رياضيات اضافية وباقي المواضيع نكون فيها مع بقية الطلاب. ومن زملائي في الثالث والرابع في التخصص الرياضي ثمانية وهم حسين نجم وهو من اسدود أصلاً وقادم من غزة مع الأوائل وجميل مرقة وهو من طلاب القدس وأصله خليلي وراشد حسني من طولكرم ومحمد غوشة وهو من طلاب القدس وأحمد الصادق وهو قادم من مدرسة صفد ثم صلاح علي رضا وكنا نسميه صلاح شركس وهو قادم من عمان وكانت الأردن ترسل طالبا أو طالبين من الأردن للدراسة في القدس. وكان من زملائي ايضاً عبد الرحيم جلال التميمي وهو من طلاب الخليل.
وبالنسبة لنظام المتـرك (شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي الفلسطيني Palestine Matriculation) كان هناك أربع مواد رئيسية يجب أن يقدمها جميع الطلاب وهي: اللغة العربية واللغة الانجليزية والرياضيات الابتدائية والتاريخ. وفي اللغة الانجليزية كان هناك مجـال أن يقدم الطالب English A أو English B. أماEnglish A فهـو يهتم بالـ Literature أي الأدب وEnglish B يهـتـم بالـ Grammar (القواعد). فكانت في المترك ورقتـان فـي امتحان English A إحداهماEssay + Pressy يعني إنشاء وتلخيص، والورقة الثانيةLiterature أي أدب. أمـا فـي English B فالورقـة الأولـىEssay + Pressy والثانية Grammar وTranslation (ترجمة). أنا نجحت بالـEnglish A بالإضافـة إلى English B. والقلائل في فلسطين كانوا ينجحون في امتحـان English A وهم طلاب الكلية العربية وبعض طلاب الرشيدية والمدارس التبشيرية وكان مسموح أن نقدم ثماني أو تسع مواد لكن يجب أن ينجح الطالب في مادتين بالإضافة إلى الأربع مواد الرئيسية حتى يحصل على المترك.
أنا قدمت الأربع مواد وقدمت معها ثلاث مواد المهم ما قدمت جغرافيا لأنها للصف الأدبي. أنا قدمت كيمياء بالإضافة إلى الأربع مواد كما قدمت الرياضيات الإضافية وطبيعة وهذه هي السبع مواد التي قدمتها.
أما طلاب القسم الأدبي فكانوا أيضاً يختارون منهم أربعة أو خمسة يدرسون اللغة اللاتينية وباقي الطلاب يدرسون عمومي. فطلاب القسم الأدبي بدون تخصص كانوا يقدمون الأربع مواد الرئيسية رياضيات وتاريخ والعربي والانجليزي ويقدمون أيضاً جغرافيا وطبيعة كما يقدمون مادة تاريخ أخرى عبارة عن تخصص في فترة معينة. والطلاب المتخصصون يقدمون اللغة اللاتينية كمادة اضافية .. وكان هذا هو النظام المتبع. والمعروف أن حملة شهادة المترك كانوا من المتفوقين في فلسطين. وأذكر أن عددهم لم يتجاوز الألف من عرب ويهود منذ بداية الانتداب حتى سنة 1942، فقد كان رقم شهادتي المسلسل في تلك السنة 1933
نظام الدراسة في الكلية العربية بالقدس
وأود أن أشير هنا إلى أن نظام الدراسة في الكلية العربية بالقدس كان حتى الرابع الثانوي مثله مثل نظام الدراسة في الكلية الرشيدية إلا أن جميع طلاب القسم العلمي في الكلية العربية كانوا يدرسون الرياضيات الإضافية كما أن كل طلاب القسم الأدبي هناك كانوا يدرسون اللغة اللاتينية والتي أدخلها إلى فلسطين المستر فرل مدير المعارف في حكومة الانتداب حتى أوائل الأربعينات.
وبالنسبة إلى مادة الرياضيات الإضافية أو الرياضيات العالية أذكر أننا قدمنا امتحان المترك في هذه المادة في شهر تموز عام 42 نحن طلاب الرشيدية وطلاب الكلية العربية في مدرسة تراسنطة على ما أذكر وكان عدد الطلاب في القاعة آنذاك نحو خمسة عشر طالبا عربيا بالإضافة إلى بعض الطلاب اليهود.
وباستثناء “مدرسة الحقوق” في القدس والتي كان التدريس فيها مسائيا، تعتبر الكلية العربية أعلى المدارس في فلسطين قاطبة، إذ كان فيها بعد الصف الرابع الثانوي (صف المترك) صفان ثانويان هما الخامس ثانوي والذي كان يسمى سابقا صف المعلمين ثم افتتح الصف السادس الثانوي (الانترميديت Intermediate ).
مؤهلات المعلمين في مدارس فلسطين
وكان المتخرج من الصف السادس الثانوي يعلم في المدارس الثانوية في فلسطين كما كان مدرسوها أيضا من حملة الشهادات الجامعية أو من الناجحين في “امتحان المعلمين الأعلى” وهو فحص في مادة دراسية واحدة كانت تنظمه دائرة المعارف ليوازي الشهادة الجامعية بين المدرسين كما كانت الدائرة تنظم فحص المعلمين الأدنى للمدرسين الذين لا يحملون شهادة المتريكوليشن أو شهادة صف المعلمين في الكلية العربية والتي كانت تسمى سابقا دار المعلمين. وكان مدرسو المدارس الابتدائية في فلسطين إما من حملة شهادة امتحان المعلمين الأدنى أو من حملة شهادة صف المعلمين أو من حملة المتريكوليشن أوالشهادة الثانوية. وهؤلاء كان يشترط عليهم لاستمرار الترقي في سلم التعليم أن ينجحوا في القسم النظري من فحص المعلمين الأدنى أي في مادة التربية وفي القسم العملي منه.
السياسة التعليمية الجائرة لحكومة الانتداب
وأذكر أنه كان يشار بالبنان إلى حملة المتريكوليشن في فلسطين كما ذكرت سابقا لأنه لم يكن ينجح في المترك إلا القليل من الطلاب. فمن مدينة يافا مثلا وهي أكبر المدن العربية في فلسطين لم يكن ينجح في ذلك الامتحان إلا اثنان أو ثلاثة على الأكثر كل سنة.
وكـان حامـل المترك مع اللغة الانجليزيـة أEnglish A يقبـل في الجامعـة الأميركية في بيـروت في صف السوفومور Sophomore وهو يلي الصف الأول في الجامعة “Freshman”.
ومما تقدم يتضح أن حكومة الانتداب كانت تقنن التعليم عند العرب والأدلة على ذلك كثيرة منها أن سن القبول في الصف الأول ابتدائي كانت سبع سنوات في المدن وثماني سنوات في القرى أي أكثر بسنة على الأقل من سن الدخول إلى المدارس المعمول بها حالياً أو في أقطار أخرى.
كما أنه لم يكن يسمح بدخول الصف الأول الثانوي إلا لصغار السن من الطلاب الناجحين في الصف السابع الابتدائي أي أن أكثر من نصف الطلاب كانوا يتوقفون عن التعليم بعد السابع الابتدائي.
كما أنه بعد الصف الثاني ثانوي لم يكن يرسل للقدس من المدن الفلسطينية الأخرى لإكمال التعليم إلا طالب واحد أو طالبان كما أشرت سابقا وكانا يرسلان إلى الكلية العربية أو الرشيدية وهما المدرستان الحكوميتان الوحيدتان اللتان كان طلابهما يتقدمون لفحص المتريكوليشن الفلسطيني حتى بداية الأربعينات وبعد ذلك أصبح طلاب المدارس العربية الأخرى وعددها قليل يقدمون المترك مع طلاب الكلية العربية والرشيدية ولكن نسبة نجاح أولئك الطلاب في ذلك الامتحان كانت منخفضة بعكس طلاب المدرستين الحكوميتين اللتين كان ينجح معظم طلابهما في المترك ومن لم يكن ينجح منهم في موضوعين فرعيين على الأقل وكان ناجحا في المواد الرئيسية كان يمنح شهادة الدراسة الثانوية والتي كانت تسمىSub-Matric أما من كان يرسب في واحد أو أكثر من المواضيع الرئيسية الأربعة وهي اللغة العربية واللغة الانجليزية والرياضيات والتاريخ فكان يعتبر راسبا في كل الامتحان. ولم يكن هناك في فلسطين “فحص اكمال” أو “دور ثاني” في الشهادة الثانوية بل كان الامتحان يعقد مرة واحدة في السنة في شهر تموز.