صدور قرار التقسيم
وفي مساء 29-30 تشرين الثاني عام 1947 صدر قرار تقسيم فلسطين. وكنت في تلك الليلة أتابع بالراديو اجتماع هيئة الأمم المتحدة وعملية التصويت. وعرفت أن أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي صوتت ضدنا. وسمعت أيضا المذيع يقول أن كميل شمعون مندوب لبنان آنذاك رفض أن يسلم على مندوب الاتحاد السوفييتي. وكنت قد قرأت في اليوم السابق كيف أن الادارة الأمريكية بأمر من الرئيس ترومان قامت بتهديد بعض الدول واغراء ورشوة البعض الآخر من أجل اقرار مشروع التقسيم في الأمم المتحدة وبعد صدور قرار التقسيم بدأت الاضطرابات في المدينة…
لماذا سقطت مدينة يافا
وكانت مدينة يافا محاطة باليهود من جميع النواحي فمن جهة الشرق بعد شارع سلمه كان اليهود متركزين ومن الشمال كانت مدينة تل أبيب والمستعمرات. ومن الجنوب كانت مستعمرة بيت يام. وهذا يعني أن مدينة يافا كانت محاطة بالعدو من كل الجهات إلا من جهة البحر أي أنها كانت ساقطة عسكريا. وكان اليهود مستعدين ومزودين بالسلاح أكثر منا. وكان التواطؤ البريطاني واضحا حيث كان الجيش البريطاني يعطي السلاح لليهود بطرق مختلفة فيما كنا خلال الثورات السابقة “إللي بينمسك معاه سكينة بيحبسوه، واللي معاه رصاصة بيعدموه”. يعني يجب أن لا ننسى التواطؤ البريطاني مع اليهود والصهيونية العالمية لاغتصاب وطننا. ورغم كل المحاولات للدفاع عن المدينة والعمليات العسكرية التي قام بها المناضلون في ضواحي يافا واستشهد فيها الكثيرون سقطت يافا في 28/4/1948. وفـي تلك الأيام تألفت لجنة قومية للمدينة وكان من أقطابها أحمد عبد الرحيم ومصطفى الطاهر وعبد الرحمن الهباب ومحمد خير البهلول وبشارة عازر وأحمد أبو لبن .. ومما يذكر أن أحمد عبد الرحيم كان أحد أعضاء لجنة الطوارئ التي قامت فيما بعد بتسليم مدينة يافا لعصابة الهاجاناة!!
ويذكر أنه في الأيام الأخيرة قبل سقوط المدينة كانت اللجنة القومية تحاول بشتى الطرق منع السكان من الهجرة .. وكانت تحاول أن تقوي عزائمهم .. ولكن عندما اشتدت الهجمة الصهيونية على يافا بقنابل الهاون ابتداء من يوم 25/4/48، اتجه معظم أهل المدينة إلى البحر طالبين النجاة!! وبعد أيام دخلت عصابة الهاجاناة إلى المدينة وأعملت فيها قتلاً وتدميراً وجمعت السكان الباقين وعددنم لا يتجاوز الثلاثة آلاف.. في شبه “غيتو” في حي العجمي وفرضت عليهم قيوداً مشددة
هجرتنا من يافا
في 25 نيسان (ابريل) من عام 1948 بدأت العصابات الصهيونية بضرب قلب مدينة يافا بقنابل الهاون بعد أن كانت قد احتلت معظم أحيائها وضواحيها الشمالية والشرقية ولم يعد المناضلون من شباب المدينة والمتطوعون العرب قادرين على حماية المدينة لقلة الأسلحة والإمكانيات العسكرية، لهذا قرر معظم أهل المدينة الصامدون مغادرة المدينة لانقاذ أرواحهم خصوصا وأنهم كانوا ينتظرون قدوم الجيوش العربية لتخليص المدينة عند انتهاء الانتداب البريطاني على البلاد يوم 15 أيار
وكنت مع أسرتي قد غادرت منزلنا الواقع في أول المنشية في شمال المدينة ولجأنا في أواسط شهر نيسان إلى منزل خالي جمال أبو الجبين الكائن في عمارة الأقباط في دير اللاتين في حي العجمي في جنوب المدينة حيث أقمنا هناك بضعة أيام عزمنا بعدها أن نغادر المدينة بعد أن تشاورنا مع بقية رجال العائلة خصوصاً وأنني أصبت في رجلي بسبب شظية قنبلة أثناء سيري بعد ظهر يوم 25 نيسان في شارع إسكندر عوض .. وسط المدينة وهكذا استأجرنا يوم 26 نيسان سيارة لوري كنا فيها نحو 30 شخصا منهم خطيبتي وأسرتها وشقيقتي المتزوجة “لمياء” وأسرتها وأقرباء آخرون وبعض الجيران بالإضافة إلى شقيقتي الكبرى وشقيقي الأصغر اللذين كانا يسكنان معي. أما والدي وزوجته وشقيقتي الصغرى “نبيلة”، فقد توجهوا إلى الميناء طلبا لمركب أو سفينة تنقذهم شأنهم شأن الآلاف من السكان. وكان البحر في ذلك اليوم هائجاً جداً والمطر غزيراً (بالرغم من أننا كنا في أواخر شهر نيسان) وكنت ترى الناس يتدافعون لركوب أي مركب يجدونه وقد سقط منهم في البحر من سقط .. وكانت المراكب تغص بركابها فتضطر إلى حمل بعض أفراد من أسرة وترك الأفراد الآخرين! وكانت بعض المراكب تبحر ثم تضطر إلى العودة إلى الميناء من شدة الريح وارتفاع الموج. وأذكر أن اثنتين من عماتي كانتا على وشك الغرق حيث بقيتا في المركب الذي أقلهما يومين أو ثلاثة في البحر ثم عادتا إلى الميناء..! وقد تمكن والدي بصعوبة بالغة أن يجد له مكانا في مركب ولكن المركب لم تبحر بسبب ارتفاع الموج وعاد وسافر بالبر إلى غزة التي كانت مزدحمة باللاجئين فتوجهوا إلى معسكر القنطرة شرق داخل الحدود المصرية حيث احتجز والدي هناك مع مئات اللاجئين القادمين من مدينة يافا وغيرها.
أما نحن فتوجهنا بالسيارة كما ذكرت ومررنا أولا بمستعمرة “نيتر” شرقي المدينة حيث كان اليهود فيها يوجهون نيرانهم إلى كل الخارجين من يافا بالسيارات وهم قلة. ومن حسن حظنا أن سيارة نائب الحاكم الانجليزي كانت بجانب سيارتنا أثناء مرورنا بالمستعمرة فتوقف المعتدون اليهود عن اطلاق النار وهكذا نجونا .. وواصلنا سيرنا إلى أن وصلنا مدينة غزة ثم توجهنا إلى العريش حيث نمنا هناك في “بايكة دواب” أو ما شابه وفي اليوم التالي توجهنا إلى الحدود المصرية ولم يكن معنا فيزا “تأشيرات دخول” فأدخلونا باعتبارنا من اللاجئين!! وأذكر بالمناسبة أنه أثناء توقفنا في الطريق تجمع حولنا بعض الأهالي المصريين من قبيل حب الاستطلاع وقد تكرم أحدهم وعرض علينا ربع جنيه كمساعدة تعاطفاً معنا فشكرناه على ذلك
يافا عند الرحيل ابريل (نيسان) 1948
دخولنا كلاجئين إلى مصر ومنع تحركنا فيها
وبعد دخولنا الحدود المصرية توجهنا إلى طريق القاهرة قاصدين بعض أفراد عائلتنا الذين استقروا في القاهرة إثر مغادرتهم ليافا قبلنا بنحو شهر أو شهرين. وقبل القاهرة ببضعة كيلومترات فوجئنا بقوة من الشرطة المصرية أمرتنا بالتوجه إلى معسكر العباسية “للإحصاء”!؟ وهناك عرفنا أن المقصود حجزنا في ذلك المعسكر .. وهكذا كان. حيث نصبوا خياما لإقامتنا في ذلك المعسكر والذي كان أصلاً للقوات البريطانية في مصر.
وبعد أن أخرج الأطفال من ذلك المعسكر في صباح اليوم التالي بطريقة أو بأخرى لم يبق من أفراد العائلة معي في المعسكر إلا شقيقتي وخطيبتي وشقيقتها ووالدهما (إذ أن من كان سافر معنا من الأقرباء والجيران قد آثروا البقاء في غزة) وقد تضايقت كثيراً واستغربت لأنني أصبحت معتقلاً في ذلك المعسكر. وقد أوضحت سبب تذمري لبعض الصحفيين الذين حضروا وطلبوا مني حديثا صحفيا كما أوضحت لهم في حديثي أسباب اللجوء إلى مصر وطريق السفر والمخاطر التي صادفتنا وشدة الهجمة الصهيونية على الفلسطينيين وافتقارهم للأسلحة مما اضطرهم للهجرة بانتظار قدوم الجيوش العربية لتحرير فلسطين وأخيرا تساءلت في حديثي عن دواعي حجزنا في المعسكر وهددت بأني سأهرب من المعسكر!!” ولما سمع ذلك أفراد الجيش الذين كانوا يتولون حراستنا ضربوا نطاقا حول خيمتي وزادوا الحراسة علي .. فلم أهرب في تلك الليلة!!
وفي اليوم التالي حضر لزيارتي ثلاثة من أصدقائي عرفوا عن قدومنا لمصر كلاجئين .. وهم جميل الحسني وبشير الغنيمي وكانا آنذاك يدرسان في جامعة القاهرة وابن خالتي وليد قمحاوي الذي كان يتدرب في مستشفى القصر العيني وعند خروجهم من المعسكر بعد الزيارة خرجت معهم ولم يفطن الحراس إلى ذلك؟! وهكذا أصبحت حراً طليقا في القاهرة وسكنت هناك في حي العباسية مع أفراد الأسرة الذين كانوا قد سبقوني إليها. وبعد استقراري هناك بدأت في السعي لإخراج أهلي من المعسكر لأن وضعهم هناك كان صعبا للغاية فقدمت استرحامات عديدة للمسؤولين ودفعت رشاوي كثيرة ووسطت بعض من كنا نعرفهم من الأخوة المصريين إلى أن نجحت وبعد ذلك بدأت بالعمل على اخراج والدي وبقية أفراد العائلة المحتجزين في معسكر القنطرة وكان عدد منهم قد هرب أيضا من هناك والتحق بالعائلة في القاهرة.
وهكذا أصبحت مصر ملجأ للكثيرين من أفراد عائلتنا وغيرهم والذين استمروا يعيشون فيها كلاجئين وكتب على بطاقة كل منهم: “ممنوع من العمل بأجر أو بدون أجر”. وبعد سنوات تمكن عدد منهم من إيجاد أعمال لهم في الكويت والسعودية وسافروا إليها بوثائق سفر مصرية لا يسمح لحامليها وللأسف بالعودة إلى مصر وهي الدولة التي أصدرت تلك الوثائق
الجزء الثاني – حياتي في الكويت – الباب الأول – الحياة في مصر بعد الهجرة من فلسطين