الباب الرابع – إنشاء مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الكويت

اختياري مديرا لمكتب المنظمة في الكويت

فيما يلي قصة اختياري مديرا لمكتب المنظمة في الكويت كما أوردتها في “مذكرات خيري أبو الجبين” السابق الإشارة إليها:

“جاء الشقيري وكان معه وليد القمحاوي وحامد أبو ستة وكان هذا في الشهر 12 من عام 1964، جاء للاتصال بالحكومة الكويتية ولإقناع الأمير أن يقتطعوا من رواتب الموظفين 5% للصندوق القومي الفلسطيني. أما الهدف الرئيسي من زيارته فهو اختيار مدير مكتب المنظمة. ونزل الشقيري في “ضيافة الخارجية”، وبدأت الوفود الفلسطينية تحضر كل ليلة للسلام على الشقيري وكانوا يرشحون أشخاصا للمكتب. ومن المرشحين البارزين كنت أنا ويحيى غنام وهو مرشح شعبي كبير كان رئيسا لقسم الزراعة في دائرة الأشغال، وخالد الحسن مرشح حركة فتح، والتي كانت فصيلا رئيسيا دعم المجلس الوطني الأول بعكس حركة القوميين العرب ولكن خالد الحسن بالذات لم تكن له شعبية في الكويت كشعبية يحيى غنام إذ أن الحسن سقط في الانتخابات ولم يكن بين ممثلي الفلسطينيين العاملين في بلدية الكويت الذين فازوا بعضوية المؤتمر الأول لأبناء فلسطين في الكويت لإبراز الكيان الفلسطيني.

ومن الطريف أن أذكر أن يحيى غنام كان يبعث إلى ضيافة الخارجية متظاهرين يهتفون باسمه ليوحي للشقيري أن الفلسطينيين في الكويت يريدون يحيى غنام لمكتب المنظمة! وبدأ الشقيري يجري مشاورات مع مختلف الجهات والتجمعات الفلسطينية من أجل اختيار المدير. وجاءني الدكتور وليد القمحاوي وحامد أبو ستة وكانا عضوين في اللجنة التنفيذية، وحاولا إقناعي بقبول المركز بعد أن أصبح الشقيري ميالا لاختياري مديرا لمكتب المنظمة، أولا لمعرفتي السابقة به ولأني أنا رئيس مؤتمر أبناء فلسطين ولحياديتي ولأنه لا يريد أن يختار المدير من حركة فتح ولا من القوميين العرب. لهذا السبب جاء حامد ووليد لإقناعي في دارنا بالنقرة، حاولا إقناعي بشتى الطرق، وأخيرا انتحيت جانبا وبكيت من عظم المسؤولية وقلت أنا متوكل على الله وأعلنت موافقتي فسر القمحاوي وأبو ستة بذلك ونقلوا موافقتي للشقيري فبلغ اسمي للحكومة الكويتية للشيخ صباح الأحمد ..

وقال الشقيري بعد ذلك للصحفيين تعليقا على اختياري مديرا للمكتب “أنا اخترت من اختاره الشعب لأن الفلسطينيين في الكويت اختاروا خيري أبو الجبين رئيسا لهم ولهذا السبب أنا اخترته مديرا لمكتب المنظمة”.

وأذاعت الإذاعة الكويتية في نشرة أخبارها الرئيسية أن المنظمة اختارت خير الدين أبو الجبين ممثلا لها ومديرا لمكتبها في الكويت. وذهبت وقابلت الشيخ صباح الأحمد، وزير الخارجية ورتب لي تلك المقابلة عادل الجراح. وكان في السابق سكرتيرا لوزير الخارجية الشيخ صباح السالم، فلما صار الشيخ صباح السالم رئيسا للوزراء صار وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد بقي عادل الجراح سكرتيرا لوزير الخارجية. وكانت الفكرة غير واضحة في البداية هل ستكون مكاتب المنظمة في العالم العربي تابعة لوزراء الداخلية أو الخارجية. ورجح فيما بعد أن تكون تابعة للخارجية، وقابلت الشيخ صباح الأحمد لأول مرة بهذا الشأن بعد أن أعلن اسمي في الراديو. وتمت الترتيبات أن اذهب للمنظمة معارا براتب كامل. فصدر قرار مجلس الوزراء بسرعة بإعارتي بمرتب كامل لمنظمة التحرير. وهكذا تركت وزارة الكهرباء والماء لأعمل مديرا لمكتب المنظمة. وأخذت شهر ديسمبر 1964 إجازة إلى أن صدر القرار في آخر ديسمبر. وفي يوم أول يناير 1965 صرت منتدبا من الحكومة الكويتية، معارا للمنظمة براتب كامل بصورة رسمية.

وبعد أن قام الشقيري باختياري مديرا لمكتب المنظمة غادر الكويت إلى القاهرة وعندما ودعته اكتفى بالقول: “أنت تعرف الكويت أكثر مني، وأنت محبوب في الكويت … وأهل مكة أدرى بشعابها”.

وأذكر أنه قبل أن يسافر طلب مني أن أعين علي حسن سلامة موظفا في مكتب المنظمة وقال لي: “هذا ابن مناضل حبذا لو تأخذه معك يا أستاذ خيري.! والأمر متروك لك!؟”

اتخاذ مقر لمكتب المنظمة في الكويت

بعد أن غادر الشقيري الكويت بدأت أفتش عن مقر لمكتب المنظمة. وكان أن رأيت أن أستعير مؤقتا مقر الاتحاد الكويتي لكرة القدم حيث كان مكتبي كسكرتير للاتحاد، وكنت على صلة حسنة بأعضاء مجلس الإدارة وأهمهم عيسى الحمد عضو المجلس. فطلبت منه استعارة مقر الاتحاد ليكون مقرا للمنظمة إلى أن تخصص لنا إدارة الإسكان مقرا مناسبا فوافق عيسى الحمد على طلبي. والحقيقة أن كل المسؤولين في الكويت كانوا يؤيدون المنظمة عند إنشائها! وأذكر بهذه المناسبة أني عندما بدأت ألقي سلسلة عن الأحاديث السياسية للتعريف بالمنظمة كنت أحتاج إلى مسارح وصالات مدارس معينة في الأحياء التي يتواجد فيها الفلسطينيون. فذهبت يوما إلى فيصل الصالح وكيل وزارة التربية للاستئذان باستعمال قاعة إحدى المدارس لهذا الغرض فوافق. ولما عدت إليه في الأسبوع التالي مستأذنا في استعمال قاعة مدرسة أخرى قال لي: “من الآن فصاعدا اذهب يا أستاذ خيري إلى أية مدرسة تريدها وقل لناظرها “على لساني” أن وكيل الوزارة يوافق على استعمال المنظمة لمسرح المدرسة” وهكذا أصبحت المدارس تقدم كل التسهيلات لمكتب المنظمة.

وبعد موافقة عيسى الحمد أعلنت أن مكتب المنظمة أخذ مقرا مؤقتا له في الشويـخ الشمالي في مقر الاتحاد الكويتي لكرة القدم. وبدأت جموع الفلسطينيين تتوجه إلى المكتب كل صباح ومساء للتعبير عن فرحتها بقيام المنظمة ولتبدي استعدادها لتقدم كل ما تطلبه المنظمة منها … ورأيت أن أفضل وسيلة لتلبية رغبات الجماهير أن أفتح باب التسجيل للالتحاق “بكتائب التحرير” التي أعلن المجلس الوطني الفلسطيني عن إنشائها . وقمنا بتوزيع استمارات الالتحاق بتلك الكتائب على الآلاف من أبناء فلسطين في الكويت ثم قمنا بتفريغ البيانات في جداول أرسلناها للجنة التنفيذية.!!

نشاط مكتب المنظمة في الكويت

وكان العمل الثاني لي أن توجهت إلى وزارة الخارجية .. وبعد مباحثات سريعة هناك منحتني الخارجية الحصانة الدبلوماسية وصرت أرفع علم فلسطين على سيارتي الخاصة وعلى مقر مكتب المنظمة، ولم أرفع العلم على المنزل لأن منزلي لم يكن في بناية مستقلة. وأذكر أنه رؤي أن أكون تحت حراسة أحد المتطوعين وكان الخوف في تلك الأيام من اليهود … والإيرانيين في عهد الشاه!!

بعد ذلك بدأت في تعيين الموظفين اللازمين للعمل بالمكتب. فعينت أولا علي حسن سلامة الذي سبق أن أوصاني الشقيري بتعيينه كما عينت عزام الجاسر وجميل خلف وابراهيم صالح. وعينت طباعين للعمل في فترة المساء وهما أحمد الزيات وتوفيق زايد واللذان كانا يعملان معي في وزارة الكهرباء. كما عينت “أبو جمال” حارسا للمكتب. وفيما بعد عينت أحمد عقل محاسبا للمكتب وهو منتم لحركة فتح وبالمناسبة فإن حركة فتح والقوميين العرب في الكويت لم يكونا متعاونين مع مكتب المنظمة منذ البداية .. وكانت جريدة الطليعة الكويتية المؤيدة لحركة القوميين العرب تهاجم المنظمة باستمرار لأنها “ولدت في أحضان الجامعة العربية”، وكانت تلك الجريدة تهاجمني أيضا باستمرار وتسميني “رئيس حزب اللاحزبيين”، وتنشر لي صورا تظهرني بتلك الصفة.

وعندما بدأنا التدريب العسكري الذي كان يستوعب أقل من مائة شخص في كل دورة كتبت جريدة الطليعة تقول أن مكتب المنظمة في الكويت باتباع هذا الأسلوب سيحتاج إلى أكثر من مائة سنة لتدريب الشباب الفلسطيني في الكويت!!؟

كما أن حركة فتح لم تكن مؤيدة لمكتب المنظمة منذ البداية رغم أنها شاركت في اجتماعات انشاء المنظمة بالقدس وكان نحو عشرة من حركة فتح أعضاء في المجلس الوطني الأول فقد اتصلت بي الحركة بعد تعييني مديرا للمكتب وطلبت مني أن أستقيل من العمل لأنني “شخص وطني” ولا يجوز أن أعمل مع المنظمة “بنت الجامعة العربية”!! كما أن الحركة وللأسف أصدرت في يوم العيد في عام 1965 بيانا نشر في مجلة الهدف الكويتية طالبت فيه الفلسطينيين بأن يمتنعوا عن أداء ضريبة التحرير.. وأن لا يدفعوا نسبة الخمسة بالمائة من رواتبهم للصندوق القومي الفلسطيني..!

يضاف إلى ذلك أن أعضاء حركة الأخوان المسلمين والتحريريين في الكويت كانوا يدعون أيضا للامتناع عن دفع ضريبة التحرير.

وفيما عدا تلك المنظمات كان الكل في الكويت يتطلع بالتقدير والاعتزاز إلى هذه المنظمة الوليدة الممثلة للشعب الفلسطيني بعد غياب فلسطين عن الساحة العربية والذي استمر ست عشرة سنة. لهذا كان من أولويات عملي أن أحرص على إظهار اسم فلسطين في كل مناسبة فكنت أداوم على حضور الحفلات الدبلوماسية والحفلات والاستقبالات الرسمية لاظهار اسم فلسطين. وكانت وزارة الخارجية في تلك الأيام تدعو كل السفراء لاستقبال أي ملك أو رئيس يزور الكويت، كما كانت تدعو جميع السفراء إلى كل حفلة دبلوماسية تقيمها (وقد تغير هذا الأسلوب فيما بعد وأصبحت الخارجية تدعو عميد السلك الدبلوماسي فقط في تلك المناسبات). وأذكر من الرؤساء والملوك الذين زاروا الكويت في أثناء عملي مديرا لمكتب المنظمة في الستينات كلا من الملك حسين ملك الأردن، ورئيس جمهورية لبنان شارل الحلو وملك ماليزيا وشيوخ امارات الخليج وأنور السادات الذي قابلته في مطار الكويت عندما زارها بوصفه سكرتيرا للمؤتمر الاسلامي.

وأذكر أن اسم مكتب المنظمة واسمي واسم زوجتي قد أدرجت جميعها في القائمة الرسمية للدبلوماسيين والتي تصدرها وزارة الخارجية. لهذا كنا ندعى إلى الاحتفالات الرسمية. وأذكر بهذه المناسبة أن اسمي مكتب منظمة التحرير ومكتب “إمامة عمان” كانا في ذيل القائمة الدبلوماسية، وكنت دائما أسعد بأن أكون بجانب ممثل “إمامة عمان” في الكويت الزميل السيد عبد الله الغزالي والذي توطدت علاقتي الشخصية معه آنذاك!!

النشاط السياسي لمكتب المنظمة

ومنذ اليوم الأول لعملي بدأت بالتعريف بالمنظمة والميثاق الوطني والنظام الأساسي بمختلف الطرق والأساليب، عن طريق الصحافة والإذاعة ثم عن طريق إلقاء المحاضرات وإقامة الندوات السياسية في أماكن تجمع الفلسطينيين. وفي الأشهر الأولى من عملي قمت بإلقاء محاضرات في كل من الفروانية والفحيحيل وحولي والسالمية. وكانت قاعات المدارس التي ألقيت فيها تلك المحاضرات تكتظ بالمئات الذين حضروا لمعرفة كل شيء عن المنظمة! وأذكر مرة أن الأخ قصي العبادلة عضو اللجنة التنفيذية وعضو اللجنة العسكرية في المنظمة حضر ندوة أقيمت في مدرسة حولي. وكان يرتدي آنذاك الزي العسكري للمنظمة … وقد قوبل بعاصفة مدوية من الهتاف والتصفيق وحمل على الأكتاف .. فقد كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها الفلسطينيون في الكويت شخصا يذكرهم بتحرير فلسطين!!

ومن أجل تنظيم العمل في المكتب تم تأليف أربع لجان ضمت عددا من الأشخاص الأكفاء المتحمسين للمنظمة ويمكن اعتبار هؤلاء الأشخاص الكوادر الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية في الكويت.

واللجان التي تم تشكيلها هي اللجنة المالية واللجنة الإعلامية واللجنة الثقافية ولجنة التنظيم الشعبي.

ويمكن القول أن النشاط السياسي لمكتب المنظمة تمثل في الأشهر الأولى أي من ديسمبر 64 حتى مايو 65 تمثل بعقد الاجتماعات للتعريف بالمنظمة في المدارس في المناطق التي كان يتواجد فيها الفلسطينيون وكذلك في الاجتماعات واللقاءات التي كانت تعقد داخل مكتب المنظمة في المناسبات الوطنية المختلفة ثم في المهرجان الكبير الذي أقامه مكتب المنظمة في قاعة ثانوية الشويخ والذي حضره رئيس مجلس الأمة الكويتي ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الجابر. وقد ألقيت كلمة المنظمة في ذلك الاحتفال وتحدث فيه عدد من العرب أذكر منهم عبد العزيز حمد الصقر رئيس غرفة تجارة وصناعة الكويت ورئيس مجلس الأمة الكويتي الأول. وأذكر بهذه المناسبة أن أعضاء من حركة القوميين العرب حاولوا إفشال ذلك المهرجان وقاطعوا مدير مكتب المنظمة عندما بدأ يلقي كلمته.

النشاط الإعلامي

ومن أنشطة مكتب المنظمة الأخرى أننا منذ فتح مكتب المنظمة بدأنا نصدر نشرة نصف أسبوعية أسميناها “أخبار المنظمة”، وكنت أحرر تلك النشرة بنفسي وكانت تتضمن كل أخبار المنظمة وأنشطتها في كافة الساحات بالإضافة إلى النصوص الرسمية للميثاق والنظام الأساسي وقرارات اللجنة التنفيذية وما إلى ذلك. وكنا نوزع تلك النشرة المجانية المطبوعة على “ستانسل” على جميع المدارس والدوائر الحكومية وكان يساعدنا رؤساء أقسام السجل العام في الوزارات المختلفة في توزيع تلك النشرة وغيرها من النشرات والبيانات والدعوات التي كان يصدرها مكتب المنظمة وأذكر منهم فخري جبريل بوزارة الكهرباء ونظام يونس بوزارة التربية. وقد استمر مكتب المنظمة في إصدار تلك النشرة نحو خمس سنوات واعتقد أنها توقفت عن الصدور بعد أن تركت عملي هناك!

يضاف إلى ذلك أننا كنا نعتمد إعلاميا على الصحافة المحلية وعلى الإذاعة الكويتية في “ركن فلسطين” والذي كان يشرف عليه الصديق المذيع موسى الدجاني.

ومن الوسائل الإعلامية الأخرى التي ساعدتنا في عملنا في السنوات الأولى الإذاعة المحلية الكويتية والتي كانت تذيع في فترة بعد الظهر كل ما نبعثه إليها من نشرات وأخبار وخصوصا الدعوات لعقد اجتماعات التنظيم الشعبي لأرباب المهن المختلفة. وأذكر أن المدير المسؤول عن تلك الإذاعة كان الأخ محمد توفيق الغصين.

ومن أجهزة الإعلام الأخرى التي كانت تعتمد عليها المنظمة جريدة أخبار فلسطين التي كانت تصدر في غزة ويحررها زهير الريس. وكانت تلك الجريدة مملوءة أسبوعيا بأخبار مكتب المنظمة في الكويت والتي كانت طاغية آنذاك!؟

بالإضافة إلى جريدة أخبار فلسطين كانت إذاعة “صوت فلسطين” من القاهرة تقوم بعمل اعلامي مميز بالنسبة لنا وكانت تذيع يوميا كل ما يقوم به مكتبنا من نشاطات.

المؤلف يخطب في مكتب منظمة التحرير في الكويت بمناسبة ذكرى وعد بلفور ، الكويت نوفمبر 1965
المؤلف يخطب في مكتب منظمة التحرير في الكويت بمناسبة ذكرى وعد بلفور ، الكويت نوفمبر 1965

النواحي المالية

تمثل النشاط المالي لمكتب المنظمة في أمور عدة أهمها استيفاء ضريبة التحرير وحملات التبرعات ثم التحصيل من القطاع الأهلي. وبالنسبة لضريبة التحرير التي حض النظام الأساسي على جبايتها من كل فلسطيني، فإن فرض هذه الضريبة على الفلسطينيين واستيفائها كان من أولويات اهتمامات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إذ قام أحمد الشقيري رئيس اللجنة التنفيذية الأولى بجولة مبكرة في البلاد العربية نجح فيها بفرض الضريبة في بعض الأقطار العربية، فقد قابل سمو أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم في زيارته الأولى للكويت بعد انتخابه رئيسا للمنظمة وكان ذلك في شهر كانون الأول – ديسمبر– عام 1964 واستطاع “أبو مازن” أن يقنع أمير الكويت بضرورة استيفاء هذه الضريبة من الفلسطينيين العاملين في الكويت وهكذا صدر تعميم رسمي من وزارة المالية بالكويت طلبت فيه من جميع الوزارات فرض هذه الضريبة على كل موظف أو عامل من أصل فلسطيني يعمل فيها، على أن تكون الضريبة بنسبة خمسة في المائة من الراتب الأساسي للموظف أو العامل. فقام الموظفون والعمال الفلسطينيون في الدوائر المختلفة بتوقيع إقرارات يخولون بموجبها المسؤولين في الشؤون المالية في الوزارة التي يعملون فيها بخصم 5 في المائة من رواتبهم وتحويل المبلغ المحصل للصندوق القومي الفلسطيني. وكان التجاوب كاملا تقريبا من قبل الموظفين والعمال إلا في حالات قليلة. والحقيقة أن المسؤولين الكويتيين في الوزارات المختلفة كانوا خير عون للمنظمة في ذلك الإجراء إذ كان الكثيرون من ذوي النفوس الضعيفة من الفلسطينيين يخشون أن يغضبوا المسؤولين الكويتيين في الجهات التي كانوا يعملون فيها إذا امتنعوا عن التوقيع على اقرارات الخصم من رواتبهم. لهذا كان التجاوب تاما مع ذلك الإجراء إلا في حالات قليلة محدودة.

ومن جانبنا في مكتب المنظمة كنا نتابع تحصيل هذه الضريبة وإرسالها للصندوق القومي الفلسطيني. وكنت أوفد موظفا من مكتب المنظمة إلى وزارة المالية ليتابع استيفاء الضريبة ويقدم للمكتب التقارير اللازمة عن سير تلك العملية حتى نقوم من جانبنا بالاتصال بالمسؤولين في الوزارات المختلفة بخصوص من يمتنعون عن دفع تلك الضريبة!

ويمكن القول أن الحصيلة السنوية لضريبة التحرير من الكويت كانت في حدود مليون ونصف إلى مليوني دولار على الأقل في السنوات الخمس التي عملت فيها مديرا لمكتب المنظمة، وتضاعفت تلك الضريبة بعد ذلك بسبب تزايد أعداد الموظفين والعمال الفلسطينيين في الكويت سنة بعد أخرى. وقد عدلت نسبة الضريبة فيما بعد فأصبحت 3.5 بالمائة من إجمالي الراتب.

هذا ويمكن القول أن ضريبة التحرير التي كانت تجبى من الفلسطينيين في الكويت ودول الخليج شكلت في السنوات الأولى من قيام المنظمة الرافد الرئيسي لميزانية منظمة التحرير خصوصا عندما كانت بعض الدول العربية تتخلف عن دفع التزاماتها المقررة للمنظمة!

ومن المؤسف أن أسجل هنا أن مكتب المنظمة لم ينجح في فرض ضريبة التحرير واستيفائها من العاملين في القطاع الأهلي والذين كانت أعدادهم وخصوصا في السنوات الأخيرة أكثر بكثير من أعداد العاملين في القطاع الحكومي من الفلسطينيين. ويرجع ذلك في رأيي إلى سببين رئيسين:

أولهما: أن الحكومة الكويتية لم تتعاون مع مكتب المنظمة كما يجب من أجل استيفاء تلك الضريبة من الفلسطينيين العاملين في القطاع الأهلي. وكانت الحكومة تعتذر للمنظمة باستمرار عن عدم تمكنها من المساعدة في تطبيق ذلك الإجراء على القطاع الأهلي لصعوبة ذلك!؟ ولم تلق اقتراحات مكتب المنظمة لتذليل العقبات التي أشارت إليها الحكومة أذنا صاغية!! وأذكر أن الشقيري في إحدى زياراته للكويت طلب من رئيس الوزراء الشيخ جابر الأحمد أن تساعد الحكومة في فرض الضريبة على الفلسطينيين العاملين في القطاع الأهلي، ولما قـال له الشيخ جابر إن عليكم أنتم أن تقنعوا الفلسطينيين العاملين في القطاع الأهلي بدفع ضريبة التحرير قال له الشقيري: “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالإيمان”.

أما السبب الثاني لعدم تمكن مكتب المنظمة من جباية تلك الضريبة من العاملين في القطاع الأهلي بصورة مناسبة فهو أن التنظيمات الفلسطينية المختلفة وخصوصا حركة فتح كانت تنافس مكتب المنظمة في ذلك الميدان لهذا كان المحصلون الذين عيناهم في مكتب المنظمة لاستيفاء تلك الضريبة من القطاع الأهلي يلقون صعوبات كثيرة حيث كان الكثيرون يمتنعون عن الدفع لمكتب المنظمة مدعين أنهم دفعوا لإحدى الفصائل الفلسطينية!! وهذا الادعاء كان كاذبا في أحيان كثيرة مما أضعف حصيلة ما تجمعه المنظمة وكذلك ما تجمعه تلك الفصائل!!

هذا وكنا قد عينا ثلاثة محصلين في مكتب المنظمة لاستيفاء تلك الضريبة من القطاع الأهلي وهم “أبو جبارة” و”أبو حابس” و”خليفة”. وأذكر بهذه المناسبة أنني اضطررت لفصل أحدهم من العمل بسبب التلاعب الذي ثبت عليه. ورفضت حينذاك كل الوساطات لإعادته للخدمة “لأن المال الفلسطيني العام له حرمة لا يجوز المساس بها”!!

ومن أجل إنجاح عمليات الجباية من القطاع الأهلي ألفنا لجانا من أرباب كل مهنة من غير العاملين في الحكومة لتقدير الضريبة التي يجب جبايتها من كل شخص يعمل في تلك المهنة. أما الشركات الكبيرة التي كان يعمل فيها عدد كبير من العمال الفلسطينيين فكانت متعاونة معنا في البداية إلا أنها عادت وأصبحت تدفع حصيلة الضريبة للمنظمات الفلسطينية المختلفة. أما حملات التبرعات فكنا ننظمها في المناسبات الوطنية المختلفة وأذكر أننا نظمنا حملة تبرعات قبيل النكسة سميت بحملة مستشفى الميدان كما سأبين فيما بعد. كما نظمنا قبلها في شهر مارس من عام 1966 حملة تبرعات في يوم فلسطين.

التنظيم الشعبي

بعد استقرار العمل في مكتب المنظمة وتعيين الموظفين كان لابد من أن نعمل شيئا لتنظيم المواطنين الفلسطينيين الذين كانوا يتدفقون على المكتب يوميا حتى نستفيد من قدراتهم وكفاءاتهم. وكما ذكرت سابقا كان إعطاء اللجان الأربع التي سبق تشكيلها في المكتب هم كوادر المكتب الوحيدين الذين يمكن الاعتماد عليهم. وكان هؤلاء وبعض أعضاء المجلس الوطني الممثلين للكويت هم الوحيدين الذين كانوا يترددون على المكتب ويمكن الاعتماد عليهم إلى حد ما. فالمنظمة لم يكن لديها كوادر حسب نظامها الأساسي، فقد نص الميثاق على أن “كل فلسطيني يعتبر عضوا طبيعيا في منظمة التحرير الفلسطينية”. والمنظمة ليست حزبا أو حركة وبالتالي لم يكن لها فكر تنظيمي واضح غير ما ورد في الميثاق القومي والنظام الأساسي وخطب رئيسها وبياناته كما لم يكن للمنظمة تنظيم شعبي أعضاؤه ينتسبون للمنظمة ويدافعون عنها. كالتنظيم الشعبي في غزة مثلا أو الاتحاد القومي .. كل هذه الأفكار مرت بخاطري وأنا أحاول أن أجد أعوانا لي في مكتب المنظمة من غير موظفي المكتب وأعضاء اللجان الأربع! خصوصا أنني شعرت منذ اللحظة الأولى أننا بحاجة إلى أعوان لمساعدتنا في تحصيل ضريبة التحرير من القطاع الأهلي.

ومن أجل ذلك رأيت ضرورة تنظيم الشعب الفلسطيني في الكويت عن طريق إنشاء نقابات أو اتحادات أو لجان لأرباب المهن المختلفة من معلمين ومهندسين وأطباء وصيادلة وطلاب وعمال وسيدات … ومع أن اتحاد العمال والذي لم يكن له تمثيل رسمي في الكويت آنذاك كان يقول أن المعلمين والمهندسين والأطباء والصيادلة كلهم أعضاء في اتحاد العمال وبالتالي ليس من الضروري تنظيمهم منفردين إلا أن ذلك القول لم يكن مقنعا لهم!

لهذا بدأنا باجراء انتخابات للعاملين في تلك المهن من أجل تنظيمهم وتمثيلهم والاستفادة من كفاءاتهم.

وبدأنا العمل بتنظيم حملة لانتخابات المعلمين الفلسطينيين في الكويت وكان عددهم لا يقل عن ستة آلاف معلم ومعلمة .. وكانت وزارة التربية تقدم لنا كل التسهيلات وتسمح لنا بعمل الانتخابات في كل المدارس. وكانت الوزارة تسمح للمعلمين الفلسطينيين بالتجمع في مدارسهم لمناقشة أمور الانتخابات وكل ما يتعلق بالعمل الفلسطيني. ومن أجل اجراء تلك الانتخابات ألفنا لجنة حيادية للإشراف عليها أذكر من أعضائها هاشم دهمش وغازي هاشم وهما من زملائي المهندسين في وزارة الكهرباء. وكان مركز الاقتراع الوحيد في مكتب المنظمة في الشويخ واستمر المركز مفتوحا طيلة اليوم الذي حددناه للانتخاب وحتى الساعة التاسعة مساء … ثم بدأت عملية فرز الأصوات بإشراف المرشحين أو مندوبيهم واستمرت عملية الفرز ثلاثة أيام ثم أعلنا النتيجة بتشكيل اتحاد أو لجنة أو مجلس للمعلمين الفلسطينيين في الكويت. وأذكر أنه كان من بين الفائزين ابراهيم الصعيدي وحسن صرصور وزينب ساق الله. وبالمناسبة كان هؤلاء أيضا هم بعض الذين فازوا في انتخابات الفلسطينيين في وزارة التربية من أجل ابراز الكيان الفلسطيني في العام السابق.

صورة لبعض قدامى "المدرسين الفلسطينيين في الكويت" في حفل أقامه لتكريمهم الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين ويظهر في الصورة من اليمين: حسين نجم، خيري أبو الجبين، نايف دلول، صلاح خلف (أبو إياد)، سعدي بدران، سليم الزعنون (أبو الأديب) وابراهيم الصعيدي كما تظهر في الصورة ثلاث مدرسات فلسطينيات تتوسطهن ميسر شاهين وهي رئيسة سابقة للتنظيم النسوي الفلسطيني في الكويت
صورة لبعض قدامى “المدرسين الفلسطينيين في الكويت” في حفل أقامه لتكريمهم الاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين ويظهر في الصورة من اليمين: حسين نجم، خيري أبو الجبين، نايف دلول، صلاح خلف (أبو إياد)، سعدي بدران، سليم الزعنون (أبو الأديب) وابراهيم الصعيدي كما تظهر في الصورة ثلاث مدرسات فلسطينيات تتوسطهن ميسر شاهين وهي رئيسة سابقة للتنظيم النسوي الفلسطيني في الكويت
سليم الزعنون "أبو الأديب" نائب رئيس المجلس الوطني يكرم المدرسة سهام عياد ابوالجبين زوجة المؤلف في الحفل الذي أقامه الإتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين لتكريم قدامى المدرس الفلسطينيين الذين عملوا في الكويت.
سليم الزعنون “أبو الأديب” نائب رئيس المجلس الوطني يكرم المدرسة سهام عياد ابوالجبين زوجة المؤلف في الحفل الذي أقامه الإتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين لتكريم قدامى المدرسين الفلسطينيين الذين عملوا في الكويت.

وقبل المعلمين قمنا بتنظيم المهندسين فألفنا لجانا حيادية للإشراف على عملية الانتخابات وفتحنا أربع مراكز للاقتراع في يوم محدد في وزارات الكهرباء والأشغال والبلدية والبريد والبرق وحددنا يوما محددا للانتخاب بإشراف لجنة حيادية وأذكر أنه فاز فيها د. زكي أبو عيد ومحمد الفاخوري وبكر الطباع.

وبعد انتخابات المعلمين و المهندسين قمنا بتنظيم انتخابات للمرأة الفلسطينية من أجل اختيار مندوبات عن فلسطينيات الكويت للمشاركة في الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية والذي عقد فيما بعد في نهاية شهر مارس في القدس برئاسة أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير. وقد تمت انتخابات المرأة الفلسطينية بنجاح. وأذكر أننا أرسلنا ثلاث من الفائزات للاشتراك في المؤتمر الأول لاتحاد المرأة الفلسطينية المشار إليه وهن: سلمى الخضراء الجيوسي وفوزية خرما وغادة الحجاوي. وهكذا تشكل في الكويت التنظيم النسوي. وقد نظم ذلك التنظيم بعد تشكيله حملة لجمع الملابس الجديدة والمستعملة في الكويت وأرسلت تلك الملابس لتوزيعها على اللاجئين في قطاع غزة!!

وقد نظمنا في المكتب فيما بعد انتخابات لاختيار ممثلين عن العمال الفلسطينيين في الكويت للمشاركة في المؤتمر العام لاتحاد فلسطين والذي عقد فيما بعد في القاهرة وافتتحه أيضا رئيس منظمة التحرير وأصبح ذلك الاتحاد بعد المؤتمر قاعدة رئيسية من قواعد منظمة التحرير الفلسطينية. وأذكر أن الفائزين في انتخابات العمال الفلسطينيين في الكويت كانوا كلهم من حركة القوميين العرب بالإضافة إلى فائز وحيد مستقل. لهذا كان الوفد الذي سافر للقاهرة كله من حركة القوميين العرب ومعهم عضو مستقل وحيد هو فايز فضة!!

وقد حاول عدد من الأشخاص المنتسبين إلى الجامعات حملي على إجراء انتخابات لاتحاد طلاب فلسطين في الكويت إلا أني رفضت ذلك حيث لم يكن في الكويت في رأيي طلاب جامعيين فلسطينيين لعدم وجود جامعات في الكويت آنذاك والمعروف أن جامعة الكويت تأسست عام 1966.

وبالإضافة إلى الانتخابات المشار إليها جرت انتخابات للأطباء كما نظمنا اجتماعات متعددة لأرباب المهن المختلفة والذين بدأنا بدعوتهم للقاء في المنظمة من أجل تنظيمهم وانتخاب لجان من بينهم لتحديد مقدار ضريبة التحرير التي تجبى من كل فرد منهم.

وقد ساعدني في تنظيم هذه اللجان من أرباب المهن الحرة الأخ محمود هاشم البورنو .. وكانت الإذاعة المحلية الكويتية خير معين لنا في دعوة العاملين في تلك المهن من نجارين وحدادين وخلاقين وتجار الخضار وغيرهم. وكنت دائما أنادي أن أهم أهداف التنظيم الشعبي الفلسطيني في الكويت عن طريق اللجان والاتحادات الشعبية هي:

1-  أن يكون الاتحاد قاعدة من قواعد منظمة التحرير الفلسطينية.

2-  أن يقوم الاتحاد بتنظيم عملية جباية ضريبة التحرير من العاملين من كل مهنة من غير الموظفين الحكوميين.

3-  أن يكون الاتحاد بمثابة نقابة مهنية تمثل العاملين في تلك المهنة وتنظم أمورهم وتدافع عن حقوقهم النقابية.

وبانتهاء الانتخابات المشار إليها، أصبحت تلك اللجان أو الاتحادات هي القواعد الشعبية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الكويت وأصبح أعضاؤها هم كوادر منظمة التحرير الفلسطينية.

وأشير بهذه المناسبة إلى أن حركة القوميين العرب ممثلة بجريدة الطليعة الكويتية هاجمتني بشدة لما قمت به واتهمتني بأنني بإنشاء تلك الاتحادات أكون قد فسخت الشعب الفلسطيني وقسمته إلى جماعات متباينة!! ولكنني لم أعبأ بذلك الهجوم إذ أنني كنت مقتنعا أن ما عملته كان لصالح تنظيم الشعب الفلسطيني في الكويت حيث لم يكن هناك وسيلة أخرى لتنظيم أبناء الشعب الفلسطيني فيها حيث يتعذر في الكويت إجراء “التنظيم الشعبي” .. وهو الأسلوب الذي كان متبعا في قطاع غزة!!

كما أن اتحاد عمال فلسطين أيضا رفض الأسلوب الذي اقترحته قائلا أن المعلمين والمهندسين والأطباء كلهم من العمال!! وأنهم يجب أن يكونوا ضمن اتحاد عمال فلسطين!! واستمر الهجوم على مكتب المنظمة وعلي شخصيا في الطليعة وفي بعض الصحف الكويتية إلى أن عقد المجلس الوطني الفلسطيني الثاني في القاهرة بعد ذلك والذي أقرني على أسلوب تنظيم الشعب الفلسطيني عن طريق إنشاء اتحادات مهنية شعبية كما سأبين في الفصل التالي!!

الباب الخامس – الرئيس جمال عبد الناصر يفتتح المجلس الوطني الثاني