كلمة عن الاضراب
في أثناء سكننا في حي النزهة وخلال دراستي في المدرسة الابتدائية هناك بدأ اضراب عام 1936 احتجاجا على السياسة البريطانية والهجرة الصهيونية إلى فلسطين وكان ذلك الاضراب أكبر اضراب عرفه العالم إذ استمر لمدة ستة أشهر كاملة. وبدأ الاضراب في يافا أولا في 19/4/1936 ثم شمل مختلف المدن والقرى الفلسطينية. وكان الاضراب عاما وشاملا وتوقفت فيه الحركة التجارية تماما في البلاد، وتوقفت المدارس والأسواق والمصانع والمتاجر وكل شيء تقريبا عن العمل. وقد رافق ذلك الاضراب الثورة المسلحة للشعب الفلسطيني وخصوصا في مدن وقرى المثلث أي في نابلس وطولكرم وجنين وقلقيلية حيث كان الثوار ينصبون الكمائن للسيارات البريطانية واليهودية المارة في تلك المناطق ثم يتبادلون اطلاق النار معها.
ولا بد أن أشير هنا إلى أنه نتيجة للإضراب أنشئ ميناء تل أبيب اليهودي، لأن ميناء يافا توقف عن العمل أثناء الإضراب. والمعروف أن مدينة تل أبيب أكبر مدن العدو أنشئت قبيل الحرب العالمية الأولى. وفي العشرينات كانت ضاحية صغيرة من ضواحي يافا.
كيف كانت تصلنا المعلومات عن الاضراب
وكانت دائرة المطبوعات خلال أيام الاضراب تنشر سياراتها التي تعرض فيها الأفلام والصور المختلفة التي تدعو إلى السلام وكنا نرى تلك الأفلام والصور … ونضحك عليهم!!
وفي الاضراب بدأت مشاعري الوطنية تنضج وبدأت أكثر من الاستماع إلى أخبار اشتباكات الثوار مع البوليس البريطاني وذلك من الراديو في المنزل وكنا نسمع من اذاعة القدس أخبار الاشتباكات والتي كان ينهيها المذيع عادة بقوله “ولم تقع اصابات ولم يحدث ضررا!” وكنا نضحك لذلك التعبير. كما كنت أستمع لأنباء الاشتباكات عندما أجلس مع رفاقي في دكان البقال (الشعراوي) المجاورة لمنزلنا وكان يلتقي فيها رجال الحي ويتحدثون عن حركة عز الدين القسام السابقة وعن المعارك وعن أعمال الثوار.
وفي أثناء الاضراب زاد تعلقي بقراءة الصحف لمعرفة الأخبار. وكنت أقرأ كل الصحف التي يحضرها للمنزل والدي وأخي كل يوم، ومنها جريدة فلسطين وجريدة الدفاع، اللتان كانتا تصدران في مدينة يافا، بالإضافة إلى المجلات المصرية التي كانت تصل بانتظام إلى يافا، وبذلك زادت حصيلتي السياسية والثقافية.
نسف المدينة القديمة
ومن الأحداث الهامة التي أذكرها عن فترة الاضراب أن حكومة الانتداب قامت بنسف المدينة القديمة في يافا في 18/6/36 انتقاما من السكان ومنعا للثوار من الاختباء في شوارعها الضيقة. وأذكر أننا شاهدنا عملية النسف ونحن نقف على رصيف الجامع الكبير المواجه للبلدة القديمة. وقد ذكر المؤرخ مصطفى الدباغ في كتابه “بلادنا فلسطين” أن قاضي المحكمة البريطانية العليا شجب قيام حكومة الانتداب بنسف منازل المدينة القديمة بيافا دون مبرر وذلك أثناء نظره في قضية رفعها أحد المواطنين مطالبا حكومة الانتداب بالتعويض عن نسف منزله. وقد دفعت حكومة الانتداب دريهمات قليلة للسكان تعويضا عن نسف منازلهم هناك.
العمليات العسكرية في ثورة36
والمعروف أنه في ثورة سنة 1936 وما بعدها كان قد يشارك في القتال في فلسطين كثيرون من المجاهدين العرب من الأقطار العربية المجاورة وخصوصا من سوريا. وكان هؤلاء من المتدربين على السلاح ويشاركون مشاركة فعلية في العمليات المسلحة ضد رجال البوليس والجيش البريطاني والتي كان معظمها يجري في “منطقة المثلث” نابلس وجنين وطولكرم.
ويذكر أن فوزي القاوقجي وهو ضابط أصله من مدينة طرابلس بلبنان اشترك في تلك الثورة واكتسب شهرة واسعة في الأوساط الشعبية في فلسطين وكنا نسمع أهازيج كثيرة في مدح القاوقجي منها: “صهيوني دبر حالك هجموا الثوار ومعهم فوزي القاوقجي الأسد المغوار”.
كما أذكر أيضا أن القاوقجي عاد إلى فلسطين بعد قرار التقسيم للاشتراك في القتال واتخذ مقرا له قرب مدينة جنين.
محاولة الحكومة قمع الاضراب
وأرسلت الحكومة البريطانية “الجنرال دل” لقمع الثورة وكنا نسمع الزجال الفلسطيني نوح ابراهيم يقول في اسطوانة كنا نتجمع لسماعها:
دبّرها يا مستر دل بركي على يدك بتحل
وأذكر أن ذلك الزجال كان يدعو إلى الوحدة الوطنية وكنا نكثر من الاستماع إلى قوله المسجل في إحدى الاسطوانات: “الدين والمذهب لله .. أما الوطن فللجميع”!
فك الاضراب
واستمر الاضراب لمدة ستة أشهر إلى أن طلب الملوك والرؤساء العرب من الهيئة العربية العليا وقفه لإعطاء فرصة “للصديقة” بريطانيا العظمى لحل القضية الفلسطينية. وهكذا توقف الاضراب وعادت الحياة إلى يافا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية إلا أن بذور الثورة بقيت كامنة.
وعن الدراسة في تلك الفترة أذكر أن مدرستنا كانت قد أغلقت في الاضراب ابتداء من شهر نيسان وكنت آنذاك في الصف السادس الابتدائي ولما توقف الاضراب فتحت المدارس في شهر تشرين أول وتقدمنا للامتحان ثم رقينا إلى الصف السابع. ويذكر أن الثوار كانوا في بداية الاضراب قد أحرقوا البناية الجديدة لمدرستنا “العامرية” وكانت آنئذ قيد الانشاء كما أحرقوا بناية مدرسة البنات المجاورة “الزهراء” .. وبعد ذلك تم اصلاح بنايتي المدرستين وانتقلنا للدراسة في البناية الجديدة في بداية السنة الدراسية 38-39.
انشاء الملعب البلدي بعد الاضراب
وفي عام 1937 استعادت دائرة الأوقاف بيافا أرض ملعب البرية القريب من شارعنا والذي كنت أتردد عليه باستمرار لمشاهدة مباريات كرة القدم للنادي الإسلامي. وحولت الأوقاف أرض الملعب المذكور والأراضي المجاورة لها إلى موقع أقامت عليه سوقا تجارية كبيرة هي سوق الاسعاف في وسط المدينة.
فاضطر النادي عندئذ إلى التفتيش عن بديل آخر وكان أن استحصل على إذن من بلدية يافا باستصلاح “أرض البصة” شرق المدينة ليقيم عليها ملعبه الجديد. وبذل الأعضاء جهودا كبيرة لتسوية الملعب وزراعة أرضه بالنجيل وذلك استلزم مبلغا كبيرا من المال دفعه النادي من صندوقه ومن تبرعات الأعضاء وبعض الأثرياء في يافا. كما اضطر النادي إلى الاستدانة من البنك العربي لتكملة المشروع بكفالة أحد أنصار النادي. وبذلك تم انشاء ملعب البصة أو “الملعب البلدي” كما سمي لاحقا في أواخر عام 1938. وكان ذلك الملعب بمقاسات قانونية وله استاد ضخم من الاسمنت المسلح. ومنذ بداية عـام 39 وحتى نهاية الانتداب كانت جميع الأنشطة الرياضية والشعبية في يافا تقام هناك